كان جائماً على سريره دون حراك وقد تسمرت عينيه في النافذه , كان وحيداً متخاذلاً تأخذه عيونه لحظات يرنو فيها الى كل شيئ حوله , يتأمله وكأنه يراه لاول مره وكان ضوء القمر يتسلل ببرود عبر النافذه ليضفي على ليله ليلاً آخر اكثر إعتاماً من ذلك الذي يجثم في داخله .. سئمت شفتاه الحديث حتى نطق مكنونه قائلاً لقد غدوت كأي قطعة أثاث في هذه الغرفه .. اخذ يلعن الاطباء الذين وضعوا في جسده أدوية افقدته الاحساس بألألم .. لم يعلموا هم ان ألمه في داخله في صراع يكاد يقتله ...
كان مقيماً في تلك المستشفى منذ ستة اشهر على الرغم من ان الاطباء إخبروه باءن إقامته لن تكثر عن شهرين .
سأل نفسه : أتراه ذلك الوقت الذي يلزم المرض كي ينتشر في كل إركان جسدي طويلاً لهذا الحد ؟ الى تكفيه نصف سنه لجعله يأخذني الى النهاية ؟ نهاية هذا الانتظار الممل
كانت السته اشهر التي إنقضت كفيله بجعله يتذكر عمره كاملاً بطفولته ورجولته وصباه , كانت الايام عباره عن صفحات يقلبها فيقرأ فيها كل المواقف , المواقف بفرحها وحزنها وسرورها , تذكر الماضي كاملاً بتفاصيله وخطوطه العريضه , لكن شيئاً واحداً كان يصاحب كل المواقف , شيئاً واحداً كان يداعب أنامله كلما حاول ان يقلب صفحات عمره , لكأنه فراشه تأبى الا ان تبقى عالقه في ذاكرته ومخيلته , شيئاً واحداً يترءى له إذا فتح جفونه أو اغمضها .. ليلى ...
وهنا حانت منه التفاته عميقه الى الماضي وانطلقت من جوفه ابتسامه ساخره ... سأل نفسه :
ليلى ...
ما الذي يجعلني اتشبت بك على هذا النحو ؟ ما الذي يجعل طيفك يلازمني وانا على عتبة النهاية ؟
الحياه بأكملها تتخلي عني .. وتتركني وتمضي .. الايام ما همها ان مرت بي أو بدوني ..
وحدك ليلى .. تلازمينني كأنفاسي ...
ليلى هي الفتاه الوحيده التي أحبها والتي ترك لأحلامه ان تنقضي لأجلها , وعلى الرغم من تلك القسوه التي كانت تحفها الإ انه كان متيماً بها الى ابعد الحدود ...
قال لنفسه : أتراني أحببتك ليلى لهذا الحد .. بهذه القوه وهذا العنف ؟ أتراني تركت لحبك المجال ان ينتشر في جسدي تماماً كهذا المرض الذي شارف على قتلي ؟ كل ما اذكره انني وضعتك زهرةً الى جانب وسادتي .. وتركت احلام الصبا تأخذني نحوك .. وعندما صحوت .. وجدت ريحك يعبق بأركان غرفتي ...
صدقيني لم ادرك الا الآن ان اريجك امسى جزاً من أنفاسي ... ليلى ... اي قاسية انتي؟ تركت تسكنين عمري وتقتحمين احلامي .. وتمسين في عيوني بريقاً حزيناً منحتك ايامي حتى اصبحت عيوني ترفض اي وجه آخر لا يحمل تقاسيمك .. وبالرغم من ذلك لم اجد منك الا الصد والهجر والبعد .. لم اجد منك الا قلباً غافياً اخذته الدنيا في سبات عميق .
انسابت من عينيه دمعه حاره ... اوقدت في جوفه لهيباً دثرته الأيام .. وانظلقت الان من جوفه تنهيده قويه وصلت ترانيمها مسامع الدنيا .. قال لنفسه : ليلى ما الأمر ؟ عشرة اعوام وانتي بعيده ... تاركةً لطيفك ان يراودني كل يوم .. أشتم رائحتك في قهوة الصباح وأرى أناملك في أسطر القصص والحكايا ..
عشرة اعوام وانتي بعيده تاركةً لعيونك وتقاسيمك أن تأخذني من غمرة واقعي .. عشرة اعوام وانتي تتساقطين على ايامي قطرات من مطر .. وانتي تبحرين في جوفي امواجاً عاتيه هدمت كياني وحطمت فؤادي وقلبك ساكن كالحجر .
ليلى : ما بالي في آخر لحظاتي انسى اهلي واخوتي واصدقائي .. أناس عشت معهم ما يقارب الثلاثين عاماً اعطوني اكثر مما اعطيت جمالاً في عينيك .. وانسابت عطاياهم لي اكثر ما انساب شعرك الغجري على وجنتيك ....
ما بالي انسى الموت ؟.. ذلك الوجه العابس الذي ينتظرني اليوم أو غداً كنتيجه طبيعيه لمرض إنتشر في أنحاءي كما انتشر حبك .. لماذا اتشبت بك ليلى ؟ وقد لقيت منك ما يجعل الحجر ينطق بالكره ..
لماذا تبقين الحلم وقد كسرت بغرورك وعجرفتك أي فرصة وليده للحلم وليس الحب ؟ لماذا احتفظ بك في جوفي زهرة رمان بيضاء وقد مزقت بأناملك القاسية ورودي التي قدمتها لك والتي ما كانت اوراقها الا بقاياي تلك التي بعثرتها بتعاليك ...
ليلى ... ما بالي اسمح لعيونك ان تقاسمني حتى فراش الموت ؟ لماذا اسمح لها ان تبقى معي حتى آخر نفسٍ يغادر جسدي المنهك ؟ ألا يوجد في عمري ما هو اكثر إيلاماً منك لأتركه يخطف آخر نظراتي في هذه الدنيا ..
أخذه من غمرة أفكاره .. شعاعاً من شمس أخذ ينتشر في الغرفه ضوءاً من ضو الصباحات الدافئه .. قال للشمس : اشرقي ودعي خيوطك الذهبية تصل أوراقي كي تلغي قطرات الندى الجاثمه على اوراقي بعد عاصفة حبها الماطره ..
اسطعي ايتها الشمس وازيلي الندى عن اوراقي كي تستطيع ثغورها ان تتنفس وتعيش..
اغمض عينيه في محاوله منه الا يراها وان يكون ما يراه شمساً مشرقه وخيوطها الذهبية .. وورداً يانعاً تداعب اوراقه نسائم الصباح ..
كان يحاول فعلاً الايراها .. وأن يقنع نفسه بأنه قادر على اقتلاع حبها من نفسه .. مهما كانت جذوره راسخه في جوفه عميقاً ... كان يحاول اقناع نفسه بانه قادر على نسيانها ليبقى في لحظة موته شيئاً من كبريائه الذي بعثره لأجل ليلى ... كان يود ان يتنفس هواءا نقياً لايخالطه عطرها ... كان يريد ان تداعب النسائم وجنتيه دون ان يتذكر شعرها المنساب .. كان يحاول ان يعيش من غيرها او بالأصح ان يموت من غيرها ...
شعر بنشوه الفرح تأخذه قليلاً عندما مرّت الثواني دون أن يراوده طيفها أخذه الحماس لأن يفتح عينيه لآخر مره محاولاً اقناع نفسه أنه تخلص من طيف ليلى التي احبها اكثر من عشرة اعوام .. فتح عيونه وبريقاً حزيناً يعكس رغبة صادقه في الخلاص ..
فتح جفونه بطيئاً ... فتحها ودمعة صامته ..
فكانت وحدها ليلى ...!!!
بقلمي :
احمد .
شيء من فراق ...
[b]احمد .
شيء من فراق ...